ابن دجلة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 03/07/2011
| موضوع: حيات الشاعر محمد اقبال ج1 الأحد 03 يوليو 2011, 6:19 pm | |
| المرء حيث يضع نفسهحكمة بليغة من أوابد حكم العرب. ندرك بها كيف نشعر بنصيب من الرفعة والسمو حين نتدارس حياة عظيم من العظماء، وكيف نكرّم أنفسنا حين نكرم ذكراه. ومع الشعور بالتكريم والسمو والرفعة نرى الدنيا مرة جديدة أكرم وأجمل مما نظن إذ جادت بأولئك العظماء وهيأت لنا معايشة ذكراهم وتأمل أعمالهم وأفكارهم. وهكذا يسعدنا أن نتحدث عن الذكرى التاسعة بعد المائة لميلاد شاعر الشرق محمد إقبال.ولد محمد إقبال سنة 1877 في سبلكوت لأسرة كشميرية الأصل برهمية المحتد، أسلمت قبل عدة قرون في زمن السلطان زين الدين الياس بودشاه. ثم هاجرت إلى البنجاب ذات الطبيعة الفاتنة. رجا أبواه التقيّان الشيخ نور محمد والسيدة إمام بيبي أن يكون لهذا الوليد شأن. فعكفا على تنشئته وتربيته وتعليمه كأفضل ما يكون التعليم والتربية والتنشئة. وفي كل مرحلة من مراحل النمو كان الطفل الناشيء واليافع اللامع يتجاوز في الأصالة والتفكير والعمق والبيان كل ما كان يُقدَر له.درس في كلية سيلكوت على عالم مشهور كان يشار إليه بالبنان في الأدبين الفارسي والعربي هو شمس العلماء مولانا مير حسن. ثم انتقل بعدها إلى كلية الحكومة بمدينة لاهور حاضرة البنجاب، فبرّز بين أقرانه، وحاز جوائز متعددة. ولمح أستاذه المستشرق السرتوماس أرنلد مخايل نبوغه. فلم يكد يتخرج حتى عهد إليه في تدريس الفلسفة واللغة الإنكليزية بالكلية نفسها. ثم هاهو ذا يسافر في تباشير القرن العشرين سنة 1905 إلى أوربة شغفاً بالتحصيل العلمي العالي ورغبة في الإطلاع على مظاهر حضارة الغرب. فهو يُجاز في الفلسفة من جامعة كمبردج. ثم ينتقل إلى ألمانية فتمنحه جامعة مونيخ شهادة الدكتوراة في الفلسفة. ثم يرجع إلى إنكلترة فيحصل على شهادة المحاماة من جامعة لندن. وفي خلال ذلك كله يلقي محاضرات تتلامح فيها بوادر فلسفته العالية. ولم تكن تلك الشهادات كلها شيئاً بالنسبة إلى ينبوع العبقرية الثر الأصيل في قلب الشاب فهو قد قطف تلك الشهادات كما يقطف المتنزه في طريقة بعض الأزاهير تدل على مروره بتلك المعالم.رجع إقبال من أوربة عام 1908 فلقي استقبالاً حافلاً وعرضت عليه مناصب حكومية فأعرض عنها. إنه نزيه عفيف النفس يقنع بالكفاف ويرضى بالميسور. كما عبر ذلك في بيت من ديوانه "رسالة المشرق"، قال:"أنا لا أتحمَّل دلال الملوك ولا جرح الإحسان، يا من انخدعت بالمطمع! انظر إلى همة هذا الفقير."وإنما انصرف إلى الفكر والأدب مع ممارسة المحاماة، فصنف ديوانين باللغة الفارسية هما "أسرار خودي" و"رموز بيخودي" فنالا إعجاباً عاماً. وترجم الأول المستشرق الشهير نيكلسن إلى الإنكليزية، فذاع صيت المؤلف في أوربة وأمريكة. ثم يتوالى الإنتاج الفكري وتتلاحق ترجماته. ولعل من أعظم أعماله ديوانه المعروف "بيام مشرق" أي "رسالة المشرق" كتبه مساجلة للشاعر الألماني الكبير غوتي الذي ألف "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي".وترجم المستشرق الإنكليزي أربري ديوان إقبال هذا ترجمة جميلة إلى الإنكليزية بعنوان "زنابق سيناء".وقد حمله أصدقاؤه على ترشيح نفسه لعضوية المجلس التشريعي في إقليم بنجاب سنة 1926 فانتخب عضواً وسعى سعياً حثيثاً لتخفيف الضرائب عن كاهل الفلاح الهندي ولإجراء إصلاحات اجتماعية متعددة. ثم انتخب عام 1931 عضواً في مجلس المائدة المستديرة المنعقد بلندن لإصلاح دستور الهند. وفي رجوعه زار القدس وأوجس مطامع الصهيونية الماكرة كما زار مصر. ثم زار أفغانستان ليشارك فكرياً في تأسيس جامعة كابل. وقام بوجوه كثيرة من النشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي. وفي غضون ذلك كله لم يفتأ ذلك الصوت العبقري يعلو ويسمو ويقوى حتى تجاوب في الآفاق العالمية دانيها وقاصيها. ولكن صاحبه كان يريد أن يبلّغه أيضاً مسامع العرب. ذلكم أن عناصر ذلك الصوت إن كانت في الظاهر هندية فإن جرسها الممتاز وروح نبراتها عربيان. يقول في ختام قصيدة طويلة رائعة بعنوان شكوى: أسمعهمو يا رب ما ألهمتني |
| وأعد إليهم يقظة الإيمان | وأذقهم الخمر القديمة إنها |
| عين اليقين وكوثر الرضوان | أنا أعجمي الدنّ لكن خمرتي |
| صنع الحجاز وكرمِها الفينان | إن كان لي نغم الهنود ولحنهم |
| لكن هذا الصوت من عدنان |
لقد سكر إقبال من محبة العرب ودينهم ولكنه كان متفتح النفس تجاه الأمم جميعها. فلقد كتب فيما كتب هذه الأبيات في ديوانه "أرمغان حجاز" ينوه فيها بقدر إيطالية حين مر بها: "انظروا إلى هذه الأمة تتشبث بأمواج البحر الأبيض المتوسط الزرقاء. إنها تغني الآن كالقيثارة وترتفع شامخة كشجرة السرو."وقد تُرجم ديوانه "جاويد نامه" وهو من أنفس الدواوين إلى الإيطالية بعنوان "أشعار سماوية". وذلك أن إقبالاً بارى به شاعر إيطالية "دانتي" في ملهاته المشهورة. وفي عنوان الديوان تورية بابنه جاويد.لقد قلّ أن يجتمع لإنسان ما اجتمع لإقبال من مواهب فطرية وعبقرية عالية وثقافية واسعة. كان عالماً ضرب بسهم وافر في ميدان الثقافة الإنسانية الزاخرة، مطلعاً على تاريخ الفكر الفلسفي الشرقي ولاسيما الإسلامي وبخاصة التصوف، وكذلك على تاريخ الفكر الغربي واعياً لمكاسب الفكر الحديث حتى آخر المكاسب العلمية الفكرية. ونحن الذين نفخر بأنادرّ سنا ما راج في العصر الحاضر من عناصر نظرية المعرفة وفلسفة الفيزياء الحديثة وقد بدلت وجه العالم ولاسيما في نهاية الربع الأول من هذا القرن نجد آثاراً لها وإشارات إليها في كتابات إقبال. ونحن نعلم أن إقبالاً توفي سنة 1938 أي أنه لم يغفل عن معالم الفكر الحديثة أيان نجمت وأنّى برزت.وكان إلى ذلك شاعراً من أكبر شعراء عصره. بل كان أكبرهم وأوسعهم أفقاً وأعمقهم شعوراً وأشدهم سمواً. وإذا كان الشعراء يكتبون أشعارهم بلغة واحدة فقد أتيح له أن يكتب أشعاره بالفارسية والأردية وأن يكتب إلى ذلك بحوثاً فلسفية واجتماعية وسياسية بالإنكليزية فضلاًَ عن معرفته لغات أخرى كالألمانية والفرنسية وإلمامه بالعربية والسنسكريتية.وهكذا تضافرت الثقافية الواسعة والموهبة الشعرية النادرة والفلسفة المتأملة الواعية والإيمان العميق الدقيق في تكوين هذا المفكر الفيلسوف المصلح الشاعر العظيم.إنه في الشعر والفلسفة الفارسيين يلحق بالشعراء الأفذاذ العالميين ولاسيما بجلال الدين الرومي الذي كان إقبال معجباً به ـ ومن منا لا يعجب بمولانا جلال الدين ـ وإن كان يختلف عنهم باختلاف العصر وصروف المجتمع وفي شؤون أخرى عدة ولا سيما في توكيده مكانة العمل وإلحاحه على فكرة الذات وتفردها وهو في هذا الشأن يقترب من الشيخ محيي الدين بن عربي كما يختلف عنهم جميعاً في الاستفادة من الفكر الحديث ومن مكاسبه.عاش إقبال في عهد شهد المدّ الأعظم لطغيان القوى الاستعمارية ولاسيما الإنكليز، كما شهد إزاء هذا الطغيان غفلة الشرق بعامة والمسلمين بخاصة والعرب بوجه أخص ورأى تفرق هذه الأمم والشعوب جميعاً. لقد نهض عظماء في الشرق وبين المسلمين وفي أكناف العرب أهابوا بالنوّام أن يستيقظوا وبالغافلين أن يتنبهوا وبالمتفرقين أن يتجمعوا وبالمتواكلين أن يجدّوا ويعملوا. ولكن هيهات لصيحات قوية مخلصة أن توقظ ملايين الرقود كالأموات من دون تهيئة أسس فكرية ومادية مكينة ورصينة تجاه حديد الغرب ورصاصه ولؤمه ودخانه. لقد عرف العرب الإصلاح السلفي في محمد بن عبد الوهاب. والثورة الواعية المتنقلة في السيد جمال الدين الأفغاني، والعلم الديني المستنير في الشيخ محمد عبده، والتنديد بالاستبداد والتفرق في عبد الرحمن الكواكبي، والوطنية الشابة المتأججة في مصطفى كامل، والإخلاص الغيور لمصلح في خير الدين التونسي وأمثالهم، كما عرفت الهند بعض زعماء الإصلاح أمثال السيد أحمد خان والسيد أمير علي (كلمة السيد هنا لقب كما هي للأفغاني) فكان أمثال هذين المصلحين إرهاصاً من بعض وجوه النظر بالفيلسوف الشاعر العظيم محمد إقبال.راع إقبالاً تخلف الشرق المرير تجاه تقدم الغرب المادي كما راعه سيطرة هذا الغرب الذي رآه بلا قلب على مئات الشعوب وملايين الأفراد فنذر فكره وقلبه وقلمه للإصلاح وللنضال وللتنديد بالغزو الاستغلال والاستلاب.وجد الغرب مفعماً بالنشاط زاخراً بالحركة. ولكنه مجرد من المبادئ الخلقية الأصيلة، فقير بالحب والإيمان، تكبله قيود المنطق بل تنهشه كالأفاعي. لقد سخّر الطبيعة لأغراضه، ولكنه أخفق في محو البؤس الإنساني، بل زاد هذا البؤس في آسية وأفريقية وبين شعوب أمريكة وأسترالية الأصليين. أما مأساة الشرق فهي النزوع نحو المظهر الخارجي الخلاب الذي يظهر به الغرب لا نحو قدراته العلمية المبدعة. لقد عانى إقبال ما وجده في الشرق والغرب من انفصام فهو يقول:"في الغرب العقل مصدر الحياة،وفي الشرق الحب قوام الحياة،فيثبت مكاسب الحب.انهضوا وأقيموا دعائم عالم جديد.بالتوفيق بين الحب والعقل | |
|