ليس معنى العنوان أن الكاتب يضع نفسه فى مقعد المعلم بل هى خواطر
تلميذ تحمل تجارب العمداء الحقيقيين للثقافة ومن تلك التجارب جمع الكاتب أسلوب التعليم الثقافي وأهميته
ما هى الثقافة ؟..
الثقافة لغة هى الكثافة أو الشيئ الكثيف .. وفى اصطلاح المثقفين تأتى أبلغ تعريفاتها ما قال به المفكر الأسطورة عباس محمود العقاد وهى أن الثقافة أن تعرف شيئ عن كل شيئ .. والتخصص أو العلم أن تعرف كل شيئ عن شيئ
والثقافة بهذا المعنى ليست ترفا وليست كمالية من كماليات الحياة بل هى ضرورة قاطعة يجب أن تتوافر فى كل إنسان يريد أن يكون له من طبيعة خلقه فضل ومسمى ..
أما بالنسبة لما تعارفت عليه الشعوب من إطلاق لقب المثقفين على شريحة معينة من المجتمع فهو أمر منطقي ولا يتعارض مع التعريف السابق ولا مع ضرورة توافر الثقافة لدى كل إنسان
لأن الثقافة ليست على حال واحد وليست على درجة واحدة فهناك حد أدنى من المعلومات التى يجب أن يكتسبها المرء بالقراءة والمطالعة من حين لآخر .. وهناك المستويات المتوسطة والعليا للثقافة والتى لا تكون واجبة إلا على شريحة المثقفين والعلماء .. فإن كان الشخص العادى من عوام الناس يعتبر من معجزاته أن يكون مثقفا عملاقا وذلك عندما تفوق على ما هو ضرورى من حد أدنى إلى حدود أعلى
فإن الحدود العليا من الثقافة للعلماء ولأصحاب القلم ولأرباب السياسة والمفكرين ضرورة إن غابت يغيب معها وصف العالم والكاتب والمفكر ..
لأن العالم فى أى مجال وأستاذ الجامعة فى أى منهج والمفكر فى أى مجال فكرى لا يمكن قبول مبدأ التخصص منه كحجة أمام تقصيره فى الشأن الثقافي كما يحدث فعلا هذه الأيام فتجد أستاذا جامعيا فى الفيزياء مثلا لا يعرف بعض المعارف الكافية عن التاريخ الإسلامى فيخلط بين السيدة زينب بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين السيدة زينب عقيلة أهل البيت النبوى بنت الإمام على رضي اللهم عنهم جميعا " واقعة حقيقية بالفعل "
والمشكلة أنك تجد بعض هؤلاء العلماء يحتج بأنه غير متخصص فى مجال التاريخ مثلا وكأن المبادئ الأولية التى لا غنى عنها ثقافيا أصبحت بحاجة إلى دراسة أو إعداد
وكان من نتيجة بلوغ بعض العلماء هذه الدرجة من الإضمحلال أن خرجت بعض أجيال الشباب اليوم فى حالة موت إكلينيكي وليس إغماء فقط عن سائر ما يربطهم به انتماء
ومن دلائل ذلك صدور قرار وزارة الخارجية المصرية بعدم قبول أى متقدم لوظيفة السلك الدبلوماسي والقنصلي فى إحدى الدفعات من أربعة أعوام وذلك برغم حاجة الوزارة الملحة لدفعات جديدة بسبب كوارث الاختبار الثقافي الذى أظهرت نتائجه ثقافة من لون جديد لدى الشباب حتى بصدد المعلومات التى يتم تكرارها عشرات المرات فى الحياة اليومية فعجز الشباب الجامعى المتقدم لوظيفة حساسة عن معرفتها ..
مثال تلك المعلومات سؤال عن نجيب محفوظ أجاب أحد المختبرين أنه لاعب كرة قدم وسؤال عن فى أى عام هجرى نحن فأجاب بأننا عام 4000 هجرى !!
وفى أحد الدول العربية وأثناء مرور أحد المفتشين على إحدى المدارس اكتشف أن أحد المعلمين الذين يدرسون للطلبة يقرأ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو الذى يقول فيما معناه { الرؤيا معلقة برجل طائر } فنطق كلمة بِرجل ومعناها بقدم عن طريق فتح الراء لتصبح رَجل فلم يتمالك المفتش نفسه من الحنق فقال للمدرس { تقول رجل طائر لابد أنه سوبرمان إذا !! }
وأحد المدرسين أيضا قال لأحد المثقفين فى حوار بمعرض الكتاب أنه لم يقرأ كتابا منذ سبعة عشر عاما !!
ويروى الشيخ أبو اسحق الحوينى أن أحد أقربائه خريج معهد للخدمة الإجتماعية جاء إليه سائلا ما المذهب الذى كان يتبعه النبي عليه الصلاة والسلام هل المذهب الشافعى أم المالكى ؟!!!!
فالثقافة وغيابها الرهيب بهذا النحو هى السبب والعصب الرئيسي فى سائر مشاكلنا كمسلمين عرب بالتحديد لأننا فقدنا أدنى روابط الصلة بيننا وبين تاريخنا من جهة وبيننا وبين معنى الحياة من جهة أخرى
ولو تحدثنا بلغة الأرقام سنكتشف هولا .. فدور النشر التى تطبع وتنشر أمهات الكتب ومختلف المطبوعات الثقافية تشير أرقام توزيعها إلى درجات بالغة الإضمحلال بالنسبة لعدد سكان الوطن العربي
وليت الأمر خاصا بأمهات الكتب التى يمكن أن نقبل حجة التخصص والثقل فيها
بل الأمر يتعلق حتى بالروايات والتى تعتبر فنا للتسلية ليس أكثر .. وتدريبا على القراءة ليس أعمق !
نجيب محفوظ مثلا الحائز على جائزة نوبل فى الآداب عام 1990م تقوم دار مصر للطباعة والنشر بطباعة كتاباته وتوزيعها على سائر الدول العربية ومن أوراق النشر أشار أحد الصحفيين ذات مرة أنه لم تتجاوز أى رواية لنجيب محفوظ عند التوزيع خمسة آلاف نسخة فى سائر الدول العربية إلا إذا تم احتساب التوزيع على عدة طبعات لأعوام مختلفة ..
خمسة آلاف نسخة فى شعب عربي من المحيط إلى الخليج تتجاوز أعداد المواطنين فى بعض أقطاره حاجز السبعين مليون نسمة
بينما وفى المقابل عندما فاز خوسيه ساراماجو الكاتب الأسبانى بنوبل أعلنت دار النشر الأسبانية أن رواية نوبل لساراماجو وزعت فى أسبانيا وحدها رقما يقترب من المليون نسخة
بل حتى لو تركنا عالم الكتب بسائر صنوفه وتساءلنا عن الصحف وهى المصدر الأكثر توافرا وسهولة لأى مواطن يريد أن يعرف شيئا من أحوال بلاده والعالم من حوله سنجد ما هو أغرب ..
فأعلى رقم توزيع قرأته لجريدة كان رقم توزيع جريدة الدستور المصرية فى عددها الأسبوعى لا اليومى ويبلغ نسبة التوزيع 180 ألف نسخة فى مصر التى يبلغ تعدادها سبعين مليونا وعدد القراء فيها أربعين مليونا مع الوضع فى الاعتبار أن الدستور جريدة بالغة الجرأة تختص بمتابعة الشأن السياسي المشتعل فى مصر منذ عدة سنوات والشعب عن بكرة أبيه من المفروض أنه مهتم بهذا الأمر ومع ذلك من يهتم ويطالع ربع مليون قارئ وحسب ؟!
ولهذا فمن المستحيل أن يتقدم الوعى لدى المجتمع أن يتجاوب تجاه حقوقه المهدرة فى سائر الدول العربية ما لم يوجه السياسيون والمثقفون الإصلاحيون جهودهم لتنمية الوعى الثقافي أولا ودفع الشباب بالتحديد للقراءة .. أما توجيه الجهود إلى الصراع السياسي مع النظم الحاكمة فسيظل حرثا فى البحر مهما فعلوا لأن الشعوب تحكمها ثقافة اللاثقافة والإصلاحيون كل قوتهم تكمن فى تبعية الجماهير لأفكارهم وتجاوبهم معها
مما سبق يتضح لنا أن الثقافة المعتدلة فى حدها الأدنى مطلبا أساسيا وواجبا لكل فرد فى المجتمع والثقافة المتفوقة الدائمة التجدد مطلبا أساسيا لكل من أمسك بقلم ..
وطبقا لهذا التقسيم سنحاول مناقشة كيفية اكتساب الثقافة وأهميتها للفريقين
أولا .. ثقافة العلماء والمفكرين ..
لئن كان مقبولا أن يتمتع فرادى الناس بشيئ قليل من الثقافة والمطالعة كل فترة .. فإنه لا غنى للعلماء والصحفيين وأهل الإعلام ومن هم على مقعد التدريس والوعظ عن الثقافة المتنوعة والمتجددة وأكرر المتجددة باستمرار ليتمكنوا من أداء وظائفهم وأمانتهم التى آلت إليهم بأماكنهم ..
ولسنا بحاجة للقول إلى أن هذه المجالات تعج بمن هم ليسوا أهلا لمرباعها وتسببوا بتقصيرهم فى تدمير الوعى لدى الجماهير بدلا من أن يقوموا بدفعهم للتنمية ..
وعلى حد قول المفكر المصري الشهير د. فؤاد زكريا عندما سؤل عن رأيه فى حاجة المجتمع إلى تجديد الخطاب الدينى أجاب أن المسألة ليست مسألة تقصير الدعاة أو الخطباء بل هى كارثة عامة حلت بكل من يأخذ مقعد العلم أو التوجيه فتوقف أى طرف من الأطراف عن البحث والمطالعة يدفع به لهاوية التكرار والخطأ الفاحش والجمود فإما أن تنصرف عنه الجماهير وإما أن تكتسب الجمود منه
وهذا الأمر الذى أشار إليه د. فؤاد زكريا هو الواقع فعلا فليت العلماء يتوقفون فقط عن مطالعة الجديد فى مجالات الثقافة وحسب بل إنهم يتوقفون عن البحث العلمى ومطالعة الجديد فى صلب تخصصهم !
فإن كان هذا حال العلماء والمثقفين الكبار فلا عجب أن يكون حال الجماهير أفدح بكثير ويعم الجهل والأمية ولئن كانت الأمية محتملة وسهلة الدفع بالتعليم فإن الجهل يستلزم جهدا أكبر بكثير حتى يستطيع المصلحون دفع ركامه عن العقول ووضع العلم الصحيح مكانه
مع أن الثقافة والتجديد المعلوماتى إذا أدى المفكر أو العالم حقها دفعت به إلى مصاف الكبار مهما بلغ صغر سنه وهو ما رأيناه مع عدد من المفكرين والعلماء خرجت سمعتهم الرائعة عن حدود جامعاتهم ومؤسساتهم بل وبلادهم ليكتسبوا العالمية نظرا لأن إنتاجهم يخرج دائما عن جهد مرير فى المطالعة والبحث فيكون كنزا لمن يطلبه
وظل بعضهم حتى بعد وفاته نبراسا عبر كتبه التى يعجز غيره عن محاكاتها وظل بعضهم حتى أخريات عمره لا يتوقف أبدا مهما كانت الأسباب عن القراءة والبحث ولا يشعر قط أنه بلغ درجة العلم والثقافة لأنها درجة لا يتم بلوغها أبدا ومن شعر بذلك أو قاله فليوقن بأنه جاهل حقيقي ..
لكن مع الأسف الشديد هذا هو الواقع فقد رأينا مثلا عددا من كبار مفكرينا ومثقفينا يطالعون ويحرصون على القراءة فى مجالات تعنيهم كما فعل المثقفون الشيوعيون عندما ركزوا على هذا الجانب فكانت ثقافتهم لها غرض وطالما أصبح للثقافة غرض فقد فسدت دون شك وهو ما حدث بالفعل عندما انهار الإتحاد السوفياتى السابق وفشلت التجربة توقف هؤلاء عن القراءة كلها لا عن الماركسية فحسب بالإضافة لما هو أهم وهو أن تركيزهم على مطالعة مجال واحد وثقافة واحدة دفع بهم إلى متاهات ما أغناهم عنها لو أنهم فقط أعطوا بعض وقتهم لتاريخ حضارتهم وكتابات عمالقة عالمنا القدامى والمحدثين فقد كان هذا كفيلا بتبصير معظمهم لمدى سطحية الفكر الماركسي مقارنة بالفكر والثقافة الإسلامية
فالخطأ كل الخطأ أن يتوقف المفكر عن المطالعة أو أن يكتفي بمطالعة مجال واحد لا يهتم بغيره فلا يطالع الأديب إلا كتب الأدب ولا يطالع العالم إلا ما يخص مجاله ولا يطالع السياسي إلا السياسة ويهملوا فى سبيل ذلك مجالات اللغة والتاريخ والحضارات والفلسفة والإجتماع وكلها مكملات أساسية للشخصية الثقافية ..
وقد خسرنا كثيرا جدا بسبب هذا الداء حتى فى مجال الفكر الإسلامى فبعض مفكرينا الإسلاميين عندما قدحوا أذهانهم وبذلوا الجهد لكى يردوا شبهات بعض المستشرقين لم يلتفتوا إلى حقيقة غابت عنهم لعدم مطالعتهم كتب التراث جيدا وهى أن تلك الشبهات ليست فى معظمها جديدة بل أغلبها شبهات قديمة قام المستشرقون بمنتهى الجدية باستخراجها من كتبنا نحن دون أن يأتوا أو يشيروا إلى ردود علماء التاريخ القديم عليها فى عصورهم السالفة
واعتمد المستشرقون على جهلنا بآدابنا وفنوننا وقد ربحوا جزئيا بهذا حتى أتاهم الكبار ففضحوا تلك الأمور وسخروا منهم لسوء تدبيرهم الذى دفعهم للبحث فى الشبهات القديمة المردود عليها بكتب التراث وإهمال الرد عليها طمعا فى تشكيك الأجيال الحالية بعقيدتها
لأن علماء السلف ومفكريهم من أمثال العمالقة السيوطى وبن تيمية وأبو حامد الغزالى ومن قبلهم الشافعى وبن حنبل وأبو حنيفة تخصصوا فى ردع شبهات الفلاسفة وأصحاب الكلام ولم يتركوا شبهة دون رد بل إن بعضهم تألق أكثر حتى افترض شبهات لم يأت بها الناس فقال بها وقام بالرد عليها
وليس هذا غريبا على من كانت المطالعة والعلم دما تجرى فيه دماءهم فالأصل فى دمائهم الثقافة والفكر
ومن أمثلة تلك الشبهات
التى أراد بعض صبيان العلمانية إثارتها على نفس نهج المستشرقين دون أن ينتبه بعض الذين تصدوا للرد أنها قضايا أكل عليها الدهر وشرب .. قضايا التشكيك فى بعض الأحاديث النبوية الصحيحة الإسناد مثل حديث رضاع الكبير الذى تم حل قضيته قديما بكلمة واحدة وهى أنه حالة خاصة .. وحديث فقأ موسي عليه السلام لعين ملك الموت وحادثة الغرانيق وغيرها من تلك القضايا التى يتصدى البعض للدفاع عنها وحلها بحلول ساذجة دون أن يكلف نفسه مطالعة كتابات الطبري والعسقلانى والغزالى وبن تيمية وغيرهم ممن ألقموا مثيريها حجرا
ورحم الله أئمتنا الكبار فوالله فى عهدهم ما جرؤ هؤلاء على إثارة قضية قديمة مستهلكة .. وكم آلمتنى كلمة أحد القساوسة المتتبعين للقضايا الإسلامية وهو يقول بخبث ..
" نريد ردا على تلك الشبهات ورحم الله الشعراوى كان يرد عليها ببساطة وأرى أن الأمة لن تحرم من شعراوى آخر "
نعم والله لن تحرم الأمة أبدا وتم بفضل الله الرد من علمائنا المتخصصين فإنه وعد الله ورسوله أن خير العلم باق فينا
وحتى فى المجالات السياسية والأدبية ..
لم يلحظ الأدباء المنغلقون على كتب الأدب وحدها أن الأدب ليس ترفا للأمم بل هو شريان تعبير عن أزمات الأمة وآمالها وهذا لن يكون ما لم يكن الأديب شاعرا أو ناثرا متواصلا مع قضايا أمته ليعبر عنها .. وليت الأدباء طالعوا فى الأدب نفسه حق مطالعته وإلا لاكتشفوا فى التراث كيف كان الشعر والنثر معبرا عن المجتمع
وفى السياسة تجد معظم من يتصدى للكتابة والتحليل والقياس جاهلا بالتاريخ مع أن الثقافة التاريخية لازمة وجوبا للمحلل والكاتب السياسي وإلا كيف يمكن أن يعالج ما يري من أحداث على الساحة الدولية دون إلقاء نظرة على خلفية العلاقات التاريخية بين الدول وتطورها .. وكمثال لو أن رجال السياسة يكلفون أنفسهم نظرة إلى ما أهملوه ما غرقنا فى إجراءات تضيع حقوق الأمة يوما بعد يوم وهى الاتفاقيات الجاهلة بمنطق وثقافة الحركة الصهيونية القائمة على تحقيق المصلحة بأسلوب النفس الطويل وهو ما يعنى ببساطة أنهم لا يركعون إلا لقوة ولا يفيد معهم تفاوض إلا بعد حرب
لكن أتى من عقد الإتفاقيات دونما إجبار ومواصلة المقاومة وهى السلاح الوحيد الذى يجبرها على الرضوخ فكانت النتيجة أن أخلت إسرائيل بسائر تعاقداتها بعد أن أخذت كل ما أرادت من إيقاف العمليات الفدائية وتصدير الخلافات بين الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى اعتراف رسمى ــ دون ثمن ــ بحق إسرائيل فى الوجود !
هذا بالإضافة إلى مجال الفكر الذى تتصدره أسماء لامعة لمفكرين أهملوا الثقافة بعد أن اكتسبوا المكانة الجماهيرية فتوقفوا عن جهد البحث والتجديد ولم يحترموا عقلية القراء فجاءت معظم كتاباتهم الجديدة تكرارا ونقلا واقتباسا
مع أن أمامهم مثل حى مثل محمد حسنين هيكل لا يضع قلما على ورقة ويكرر معلومة أو تحليل ولا يغامر بتأليف كتاب إلا بعد أن يحيط بسائر جوانب موضوعه فتخرج كتاباته موسوعات لا تحتاج معها مرجعا آخر أبدا
وهو نفس الأسلوب الذى حكم الأمام الشعراوى فى مجاله وكذلك عباس العقاد وتوفيق الحكيم و الكبيسي العالم العراقي الشهير فتلك الشخصيات لا تتوقف قط عن التجديد الثقافي ولا يتم فتح موضوع أيا كان نوعه أمامهم إلا وتجد عندهم نصيب منه يزيد فى بعض الأحيان عن نصيب بعض متخصصي تلك المجالات
ومن مآثرهم مواقفهم الحكيمة أمثلة تجعل العقل فى حيرة من هذا النبوغ فعباس العقاد كان تلميذه أنيس منصور متخصصا فى الفلسفة وأستاذا جامعيا فيها وزراه ذات مرة ففتح معه موضوعا حول مؤلفات أحد الفلاسفة الأوربيين فقال أنيس منصور أن لهذا الفيلسوف أربعة كتب فقط تُرجمت للعربية ومد يده بتلك الكتب للعقاد هدية له فضحك العقاد ولم يرد بل نادى خادمه وطالبه بأن يأتى له بالكتب الملقاة على جانب فراشه ..
فاكتشف أنيس منصور لذهوله أنها سبعة كتب لهذا الفيلسوف حصل عليها الأستاذ مترجمة منها أربعة كتب هى التى جلبها أنيس منصور معه وثلاثة لم يسمع عنهم شيئا ..
وكان مما رواه عن العقاد أيضا أن منتداه الأسبوعى الذى كان يعقده بمنزله فى حى مصر الجديدة بالقاهرة كان يبدأ دائما بسؤال الحضور للعقاد عن الموضوع الذى يتحدثون فيه
فتكون إجابة العقاد اختاروا أنتم الموضوع .. فيختاروا أى موضوع سياسيا كان أو أدبيا أو تاريخيا فيأخذ العقاد بلبهم فيه
وهذا أيضا كان حال الشعراوى رحمه الله وأيضا هيكل الذى علق أحد كبار النقاد فى الأدب عنه قائلا
أن هيكل أصبحت لا أجرؤ على الحديث معه فى الأدب مخافة أن أخطئ فى معلومة عن شاعر جاهلى أو معاصر بعد أن اكتشفت أن معلوماته فى هذا المجال بلغت درجة تثير الإطمئنان أنه لم يفكر فى اقتحام مجال الأدب وإلا لأجلسنا فى بيوتنا
والدكتور الكبيسي وهو عالم لغة عربية فى الأصل تعج برامجه بتحليلات سياسية يعجز عنها بعض المحترفين فى هذا التخصص
وما بلغ هؤلاء القمم أماكنهم إلا بعد أن حققوا المعادلة الصعبة وهى الوصول للقمة ومواصلة جهد الصعود لا التوقف ..
فأين هؤلاء من هذا الكاتب المعروف الذى استضافته إحدى المذيعات فسألته عن حكمته فى الحياة فقال لها
قول الله عز وجل اطلبوا العلم ولو فى الصين .. فعقبت المذيعة المثقفة
صدق الله العظيم !!!
الثقافة العامة وضرورتها ..
لسنا بحاجة إلى بيان أهمية الثقافة لعامة الناس لتعلقها الشديد فى عصرنا الحالى بالاستقرار النفسي والإجتماعى للفرد فى عصر ضرب فيه الزيف والتشكيك ثوابت المجتمع المسلم سواء فى الدين أو العقيدة أو الوطنية أو القضايا القومية الكبري ..
ويكفي أنه بغياب الحد المطلوب من الثقافة للعامة غابت سائر أوصاف الحياة الإنسانية وانقلبت مذاهب الحياة لتصبح مذاهب معيشة .. والمعيشة هى أن تأكل وتشرب وتتنفس فقط بينما الحياة تنفعل وتكون حضارة وتتأثر وتؤثر بما حولك
فلا يوجد فارق بين الإنسان المثقف والغير مثقف لأنهم غير قابلين للمقارنة من الأصل فمن لا يقرأ الحد الأدنى أو يطالع الشكل المقبول من المعرفة يصبح معطل الذهن والبصر ويٌساق لغيره كما تُساق الأنعام ..
وليس فى هذا القول أدنى مبالغة ويستطيع القارئ التبصر فى المجتمع الآن ويشاهد الدلائل على ذلك والتى تتضح فى وجوه مشاهدى البرامج الفضائية مثلا وتجدهم ينفعلون ويقتنعون بما يسمعون أيا كان القائل وأيا كان الرأى وكأنما يتحدث المتحدث من هؤلاء عن وحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
وهذا بسبب غياب الثقافة الذى نتج عنه غياب العقل لتعطله فغابت البصيرة لغياب العقل ..
وانظروا مثلا ما يحدث على الساحة الفلسطينية والصراع الدموى بين مختلف الفصائل .. وأكرر صراع دموى بالسلاح وقتال بين فصائل تنتمى لنفس العقيدة والقومية فى ظل احتلال أجنبي للأرض
فهل سألت الجماهير نفسها سؤالا منطقيا واحدا وهم بصدد صراع على الحكم ..
أين هى الدولة من الأساس لتقوم على حكمها الصراعات ؟!!
أو يسأل بعض أهل الحسرة على تخاذل العرب والمسلمين عن نصرتهم سؤالا أكثر منطقية عن سبب التخاذل الفلسطينى ذاته بعد رحيل أهل الجهاد الكبار من عائلة الحسينى وغيرهم .. وهل طالعوا تاريخ المنطقة وقارنوا بين احتلال إسرائيل لفلسطين والذى يبلغ عمره نيفا وخمسين عاما فقط .. ما الذى يدفع اليأس إليهم وقد احتلت فرنسا الأراضي الجزائرية مائة وستين عاما واحتلت انجلترا مصر ثمانين عاما ولم تجد تلك الشعوب من يدعمها بمال أو سلاح بل كان شبابها يهاجمون المعسكرات ويستولون على السلاح اللازم من قلب معسكرات العدو ولا يتوقفون عن النضال
وكلهم يؤمن تمام الإيمان أن تقريب الطرف الإسرائيلي لفصيلة دون أخرى هو بهدف إرساء مبدأ التفرقة ..
ألا يعد من الجنون أن تعرف السبب والهدف والمصدر ومع ذلك أينما يدفعك ثلاثتهم تنساق خلفه وتنفجر الصراعات ؟!
وقس على هذا سائر الجماهير العربية إزاء جميع القضايا فى المجتمع .. يتشتت شملهم وقناعاتهم حسب الصدفة فأينما تلقي العيون بصرها إلى مقال فى صحيفة أو برنامج فى شاشة تجد المشاهدين يتوزعون انتماء بين مختلف الأقوال وكل منهم لا يعرف إلا وجهة النظر التى سمعها ولم يفهم منها شيئا بل أخذ فى القضية حكما حسبما رأى وسمع وانتهى الأمر
وذلك بسبب غياب الحس الثقافي الذى لا يأخذ أى قول أيا كان على عواهنه بل يمحص ويتدبر طالما أنه لا يتعلق بحكم قرآنى أو نبوى .. وهذا طبيعى لأن غياب هذا الحس يسلب الإنسان قدرة التمييز فيغلق فهمه على ما يسمع من الأشخاص ولا شأن له بما يأتون به هل هى وجهات نظر علمية أو حقيقية أو سليمة أو أنها أوهام وعقائد فاسدة ..
ومن أمثلة ذلك ما يعانيه بعض العلماء عند مناقشة العامة الذين لا يعرفون الفارق بين عالم متخصص أو مفكر حقيقي وبين ذوى الهوى والغرض .. فتستمع لمناقشات تُضحك حتى البكاء بناء على قناعات مسبقة أخذوها بشكل مطلق
مثلا تميل الجماهير فى بلادنا لكل من تحاربه الدولة من المفكرين والعلماء والسياسيين
وحتى من آحاد الناس دونما تفريق بين من منعته الدولة وهى على باطل وهو على الحق وما أكثرهم لأنه يقوم بتوعية الجماهير وبين الذى اختلف مع الدولة فكان اختلافا كاختلاف اللصوص على الغنيمة كلاهما على الباطل مثل اختلاف الدولة مع الأحزاب وبين من منعته الدولة أو عاقبته على خطأ وكان موقفها صحيحا كما حدث فى مصر أثناء قضية نصر أبو زيد مثلا
وقد منعت مصر محمد حسنين هيكل من وسائل إعلامها الرسمية .. فمالت الجماهير إليه لأنه رجل ثقة فى معلوماته حتى وإن اختلفت معه فى التحليل ولا ينافس النظام لا فى طلب حكم ولا فى انتخابات ولا شأن له بالغرض فيما يقوم به لكن أن تقوم الجماهير بتتبع آخر كل مؤهلاته أنه اختلف مع النظام فسجنه ومعه تاريخ قديم عريض من الزيف والخداع وتفضيل مصلحته الشخصية حتى لو كانت على حساب المصالح الوطنية .. هذا هو الذى يثير الحسرة !
وما كان هذا إلا لغياب الوعى ومحاولة مطالعة الأوراق الكاشفة لتلك الهويات .. وعدم وجود الكبراء الناصحين إما لأن الشباب يهملون السماع وإما أن الكبار تمت التضحية بهم على مذابح الإهمال
ومن المؤسف حقيقة أن الوعى المدرك لدى الأجيال الماضية كان متوافرا لدى معظمهم وهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة وليس فى الأمر تناقضا
فالثقافة لها عدة أوجه بالذات فى عصرنا الحالى سماعا ورؤية وقراءة وكانت أيضا متنوعة لدى أجيال آبائنا وأجدادنا للأميين فى شيوخ المساجد على المنابر وفى أجهزة المسماع { الراديو } وكانت فى مدرسي المدارس والذين لم تكن وظيفتهم تعليم الطلاب فى مدارسهم فقط بل كانت تمتد لسائر المجتمع القروى عبر مختلف المنتديات التى كانت تلتف حول قدر النار فى ليالى الشتاء وفى جلسات المصاطب فى الصيف وفى الكتاتيب التى أخرجت سائر علماء وفقهاء ومفكرى الأمة الكبار وخريجى الجامعات الذين كان الواحد منهم فى ثقافته يساوى الآن عقلية أستاذ جامعى حامل للدكتوراه
وفى ظل هذه الوسائل البسيطة التى لا تمثل شيئا فى زحام الإمكانيات التى يتمتع بها جيل اليوم من معارف بلا حدود وفى متناول اليد .. فى ظل تلك الوسائل البسيطة كانت أجيال آبائنا عمالقة فى ثقافتها حتى الأميين منهم
وذلك لأن الأساسيات توافرت فيهم فليست الثقافة أن تقرأ فقط .. بل الثقافة تحتاج أولا عقلا مدركا ليفصل بين ما هو محكم قطعى لا نقاش فيه وبين ما هو قابل للنقاش .. وبصيرة تمت فطرتها على احترام كل ذى علم ومنحه الصدارة وإنكار كل تافه وطرده من المجتمع بالإهمال
فأين نحن الآن من هذا .. ؟!
مذيعة لأحد البرامج التى تختص ببث القضايا المنفرة لكل فطرة سليمة يبلغ راتبها خمسة وخمسين ألف دولار فى الشهر الواحد بينما فى مصر يبلغ بدل شراء الكتب لخطباء المساجد عشرين جنيها أى ما يعادل أقل من أربعة دولارات
بينما فى مصر قديما كان راتب محمد حسنين هيكل فى الأهرام يبلغ خمسة آلاف جنيه سنويا وهو مبلغ مهول بمقاييس الخمسينيات ليس لأنه صحفي فى جريدة قومية بل لأنه هيكل وعلمه وقيمته لا خلاف عليهما
الآن لا يستطيع ممثل من الدرجة الثانية أن يسير فى الشارع لكثرة الإزدحام حوله بينما لو نزل هيكل الآن للشارع فلن يعرفه إلا شخص من كل عشرة أشخاص
وقديما كان التمثيل فى الأربعينيات مهنة من لا مهنة له
وكانت لا قيمة لهم بالمجتمع لدرجة أن المحاكم لا تقبل لهم شهادة نهائيا ولم يكن ينضم للتمثيل إلا من لا هوية لهم بالمجتمع حتى الوقت الذى انضم فيه يوسف وهبي وكان من عائلة كبيرة ويحمل الباكوية وصارت تلك الحادثة حديث الأوساط استنكارا ومن ساعتها بدأ الإنهيار
فتخيل هذه الصورة القديمة وضعها إلى جوار الصورة الحالية ولا تعليق
وقديما عندما تقدم عبد الحليم حافظ وهو فى أوج شهرته للزواج من فتاة من عائلة متوسطة كان الرفض القاطع من أهلها حتى يترك مهنته ـ برغم الشهرة الكاسحة ـ ولكن كانت ثوابت المجتمع وثقافته قائمة بخيرها لم يمسها الهوان
والشيخ الإمام محمد مصطفي المراغي بعد أن حاز عالمية الأزهر فى شبابه وصار أصغر من حصل عليها أراد والده أن يختار له زوجة صالحة وفكر فى إحدى بنات عائلة كبري فى الصعيد ترجع أصولها إلى النسب النبوى المكرم وتعج العائلة بأهل العلم والمكانة الإجتماعية الضخمة ولم يكن والد الشيخ المراغي طامحا فى هذا النسب إلا لأن ابنه عالم أزهرى له شأنه رغم صغر سنه فقبلته العائلة على الفور لأن المجتمع لم يكن يري شرفا يدانى شرف العلم بناء على الثقافة التى كانت صحيحة ومتينة ..
وأحد القضاة الكبار دخل المحكمة ليمارس عمله واستوى جالسا وبالصدفة البحتة كان والده فى القاعة مع الحضور لأن صديقا له أتى شاهدا بقضية سينظرها القاضي الإبن ولم يكن الوالد يعلم أن ولده هو قاضي الدائرة
ومن على منصة القضاء لمح القاضي والده بين الصفوف فهب واقفا على الفور وغادر القاعة ودخل لغرفة المداولة وأرسل لأبيه فأتاه فقبل يده ورجاه أن يغادر القاعة ليتمكن من الجلوس على المنصة !
وعندما حدثت نكسة عام 1967 م ..
وكانت كارثة لا تدانيها كارثة بالطبع .. وتوقعت إسرائيل والولايات المتحدة أن يستبد اليأس بالمصريين والعرب جميعا بعد الأهوال التى اكتشفوها من قوة عدوهم وعتاده ومن إهمال قادتهم ..لكنهم فوجئوا بالمظاهرات فى مصر تخرج غاضبة هاتفة بنداء شهير لا أستحب ذكره لأنه تعبير شعبي متجاوز تقول لعبد الناصر لا تتنحى الآن عد لمقعدك حتى تنكشف الغمة ولم يبق فى مصر كلها طفل واحد له هم أو حديث إلا عن الحرب القادمة ..
وترك كل ذى نعمة نعمته وهب ليرسم خطا فى لوحة النصر القادمة فانضم متطوعا للجيش عدد كبير من الشباب منهم المهندس والطبيب والمحامى تاركين عملهم الرئيسي ساعين للجيش طواعية
وتآزرت العرب جميعا على قلب رجل واحد من المحيط للخليج وأجبرت حكامها على أن يكونوا رجالا فكانت حرب التحرير من نفس الجيل الذى تلقي الهزيمة الساحقة فلم تهز من عزيمته شعرة
فلماذا فعلت الشعوب العربية ذلك .. ؟!
فعلته لأنها كانت ذات ثوابت ثقافية صحيحة وسليمة لا تصف المسميات بغير أسمائها حتى العصاة منهم لم تكن معاصيهم تظهر إلا مع أقرانهم .. لم يكن الواحد منهم ليجرؤ على الوقوف مهتزا أمام والده أو يجرؤ أحدهم مرة واحدة على تحليل المعصية والقول بإباحتها
فكيف كانوا كذلك ولماذا أصبحنا نحن خلافهم .. ؟!
لأنهم اكتسبوا العقل الناضج .. والهمة العالية .. والثقافة السليمةونحن افتقدنا لثلاثتهم ..
فكيف يمكن أن يدرك الراغب فى الثقافة نفسه .. هذا ما سنحاول مناقشته فى السطور القادمة ..
أولا .. العقل الناضج والطريق إلى الثقافة ..
يقول الحق سبحانه [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا] {المزمل:19}
فمن ذا الذى لا يريد إدراك نفسه فى عصر الفتن ويتخذ لربه سبيلا .. والعقل الناضج هو الذى يدرك أن العبادة قوامها العبادات لكن أساسها العلم الذى يجلب التقوى ..
هذا أول طريق العقل إلى الثقافة فلو لم يدرك الإنسان أن طريقه لله لن يتأتى إلا بالمعرفة الحقة والعلم الضرورى سيضل طريقه دونما شك ولو قضي دهره صائما قائما ..
لأن الثقافة إن كانت بالعصور القديمة ميزة وتكرمة ففي عصرنا الحالى ضرورة لا غنى عنها ..
فقديما كان العلماء قائمون على حدود الله يحرسونها يقظين لكل صاحب فتنة ولكننا الآن فى عهد صار أهون الناس على الناس فيه هم العلماء وضربت بينهم وبين الجماهير الحجب وشغلتهم السلطات بأرزاقهم بعد أن تعمدوا تركهم لا يجدون قوت يومهم وانفرد بالإعلام أصحاب الأوهام .. فلو سار المرء فى حياته دون حصن ثقافي وقع فى أقرب شرك منصوب له
وبداية الطريق لا تكون إلا بجلسة منفردة مع النفس أولا يسأل فيها كل واحد عقله بسؤال منطقي أين يبتغي الوصول بالضبط ؟!
هل الحياة بشكلها الحالى تمثل أمرا مقبولا والإجابة بلا القاطعة ومن ثم لابد من التفكير الجدى أن الطموح للمعرفة ليس لأن يقال عن الإنسان أنه مثقف وليس لكى نكتب وننشر على الناس ونستمع لآهات الإعجاب وليس لأى غرض كان .. بل يجب أن تكون المعرفة للمعرفة والثقافة للثقافة ..
هذا ما يجب على الإنسان أن يتخذه يقينا دامغا قبل أن يسأل وقبل أن يفكر من أين أو كيف أبدأ ..
وعندما يقرر البدء لابد أن يكون العقل ناضجا واعيا للخوض فى بحار المعرفة .. والنضج والوعى هو الذى يرسخ للمثقف أن يكون باحثا فيما بعد ويتوفر فى المرء عن طريق النظر إلى الكاتب قبل الكتاب والى الدليل قبل الإقتناع .. هذا بالطبع لا يتم تطبيقه على الثوابت التى اتفق عليها علماء كل علم
فمن كوارث الإنترنت بالذات كمصدر هام للثقافة
أن القارئ يطالع غرائب المعلومات والحقائق والموضوعات فيأخذها على عواهنها وهى كلام مرسل قد يكون ماسا بثابت فى الشريعة أو بحقيقة تاريخية هامة أو نحو ذلك
فالحل يكون بالنظر للكاتب هل أورد فى موضوعه التوثيق الكافي للمعلومة أم ذكرها منفردة فإن ذكرها منفردة فعلى القارئ المثقف أن يسأله عن مصدرها وإن لم يتوفر يبحث عنها القارئ نفسه ولا يأخذها أو يتعامل بها ما لم يستوثق من أهل علمها
أما إن الكاتب ثقة بشخصه ومتحدثا فى مجاله فلا بأس باكتساب المعلومة منه مباشرة وهؤلاء الكتاب هم المعروفة سمعتهم وهى خاصية سيكتسبها القارئ كلما قطع أشواطا فى القراءة وذلك عندما يدرك أعلام كل مجال
وهذا يعفي القارئ من الحماقة المنتشرة بين القراء والمثقفين وهى احتجاج بعضهم بمعارضات مجهولى الهوية أمام أقوال وجزم كبار المؤلفين والمحللين ..
مثلا .. كتب هيكل كتابه الشهير عن حرب الخليج المعروف بنفس الإسم والذى أثار ضجة معتادة تصاحب كتب الأستاذ عادة ولكن لأن الكتاب أتى هذه المرة معالجا حدثا معاصرا على خلاف المعتاد من هيكل فقد جاءت حقائق هيكل المعتادة وتحليلاته بالغة الصدمة والتأثير لأنها أتت بعد عام واحد من أحداث حرب الكويت عام 1991 م
وخرجت العديد من الأصوات المعارضة للكتاب واهتزت بعض المؤسسات الرسمية وحاولت تكذيب بعض معلومات الكتاب ووثائقه ..
وهذا الأمر ـ لمن يعرف هيكل ـ يُعد إجراء بالغ الخفة والطيش لأنك قد تختلف مع هيكل فى تحليله للمعلومات إلا أن ما يمكنك الطعن فيه هو معلوماته ومصادره التى لا تتأتى لبعض أجهزة المعلومات والمخابرات فى العالم ويكون أى كتاب لهيكل ملحقا به فصل أو أكثر كملحق وثائقي لا يضم إلا وثائق رسمية من دولها وجميع شهادات الساسة والمفكرين التى ترد فى كتب هيكل تكون منسوبة لأصحابها وهم على قيد الحياة .. ومن هذا المنطلق اكتسب هيكل مصداقيته المعروفة عالميا كواحد من أبرع عشرة محللين سياسيين فى العالم تؤخذ كلمتهم فى الشأن السياسي وهيكل هو العربي بل والشرقي الوحيد من بينهم
ولأن الساحة فى عالمنا لعربي تزدحم بمن هو ليس أهلا للقلم فقد خرج أحد الكتب طاعنا ومتهما هيكل بالتزوير وكان عنوان الكتاب يوحى بأن صاحبه قد أمسك بأدلة قاطعة تفضح زيف هيكل حيث كان الكتاب بعنوان { أوهام القوة والنصر عند هيكل }
وبتقليب صفحات الكتاب وجدته يحتوى على مقالات مجمعة لعدد من الكتاب الخصوم لهيكل مثل د. عبد العظيم رمضان معروفة كتاباته أنها ترد مرسلة وعبارة عن سرد أعمى خال من أى وثيقة أو دليل إن كتب شيئا عن الشأن الجارى ومع تلك المقالات بعض قصاصات الصحف الرسمية التى نشرت تكذيبات رسمية صادرة عن بعض الحكومات بشأن بعض المعلومات الواردة بكتاب هيكل
هناك من يقرأ مثل هذه الكتب الغير واضحة الملامح ويبنى عليها مواقفه .. لكن الأحرص يكتشف على الفور بمجرد النظر للكتاب أن عبد العظيم رمضان يتحدث وفقط بينما نحن بصدد وقائع محددة أوردها هيكل موثقة فأين دليلك المضاد ؟!
والتكذيبات التى نشرتها الصحف الرسمية منسوبة إلى حكومات رسمية كانت تكذيبات مرسلة ومعتادة فى مثل هذه المواقف تكون لإثبات موقف وحسب إلا أنها لا تملك نهائيا دحض حجة قائمة بدليل
وأمثلة هذه التكذيبات الشهيرة تمتلئ بها الصحف العربية كان آخرها عندما أصدرت الأهرام تكذيبا رسميا عن رياسة الجمهورية بشأن الحوار الذى أدلى به الرئيس مبارك لإحدى القنوات ونشرته الأهرام كما هو وكان الحديث محتويا على بعض التصريحات التى لم يشأ النظام أن تؤخذ عليه فأصدرت رياسة الجمهورية بيان التكذيب
وكأن الحوار المعلن السابق إذاعته على القناة الفضائية التى جرى الحوار على شاشتها قد اختفي أو أنه أصبح فى حكم الوهم ..
وغاية القصد أن العقل الناضج يجب عليه أن يستوعب المعلومات ويستوعب الاعتراضات ويزنها بميزان الذهب
ثانيا .. الهمة العالية
يظن الكثيرون أن الثقافة ليست علما بل تقل عنه ولهؤلاء أقول أن الثقافة علم وينطبق عليها ما ينطبق على طريق العلماء من المكارم والجزاء دون أدنى فارق لأن الله سبحانه وتعالى لن يحاسب العلماء ويقدرهم حسب عدد الشهادات التى تزين صالونات المكاتب ولا بعدد الجوائز التقديرية التى نالوها بل سيكون الحساب على المعلومات التى أضاءوا بها طريقا أمام طالب الطريق أيا كان نوع تلك المعلومة وأى ما كان مجالها طالما كانت فى غير مجال هدم
وقد اعتاد الكثيرون أن يلقوا بأسئلة متعددة ومتكررة حول كيفية البداية .. كيف يقرأ ومن أين يبدأ وكيف أتأكد مما أقرأ .. ؟!
وفى الواقع أن الأسئلة بشكلها السابق لا تنم إلا عن غياب الجلسة النفسية للعقل الناضج والتى تحدثنا عنها آنفا لأنه لا معنى لهذا السؤال إلا فى حالة واحدة .. أن يكون السائل مفتقدا لأى نوع من أنواع الكتب أو المطالعة وهذا مستحيل بالطبع لأن الكتب الآن أصبحت سلعة متروكة ومتوافرة بسائر الأقطار سواء للشراء أو المطالعة العامة هذا بالإضافة لنوافذ المعرفة بشبكة الإنترنت والبرامج الثقافية والمنتديات المختلفة وغيرها
فلا ينبغي أن يحتار البادئ على طريق الثقافة فى أى مكان يضع أول خطوة بل تكون أول خطوة حيث أول كتاب يصادفه فقديما عندما قالوا للعقاد ما رأيك بالحكمة القائلة { اقرأ ما يفيدك } فقال أنها حكمة معكوسة إذ كيف يمكن أن يعرف المرء ما يفيده مما يضره قبل أن يطالعه هم يقولون ذلك وأنا أقول
{ استفد مما تقرأ}
وهذا هو مربط الفرس فمن الأخطاء الشائعة أن يتلمس راغبو الثقافة استشارات من أهلها عن الكتب التى يطالعونها وهذا أمر لن يأتى بأدنى فائدة لأن كل إنسان له مجاله الذى يميل إليه فلو جاءت الاستشارة والنصيحة بكتاب معين لا يميل إليه القارئ ولا يستوعب مجاله ستكون بداية منفرة عن القراءة بأكملها ..
ولذا يجب أن يحدد المثقف فى بداية طريقة أى المجالات التى يريد أن يطرقها وأيها أسهل استيعابا لأن مرحلته الأولى ستكون مرحلة تدريب وتأهيل على كيفية إمساك الكتاب والصبر على قراءته على عدة مرات ثم محاولة قراءة كتاب فى جلسة واحدة وهكذا حتى تتشرب هواية القراءة إلى الأعماق وتولد فى نفس القارئ الهمة العالية للبحث والمطالعة
ومن المفضل أن تكون البداية مع الكتب المبسطة والروايات الهادفة التى تحمل بين طياتها معلومات ثقافية دسمة وكتب المعلومات العامة للشباب وغيرها من تلك الكتابات التى تمثل إغراء على المطالعة
وقد يسأل سائل كيف يكون التصرف إن طالع المثقف البادئ كتابا يحمل قضية معينة وربما كانت قضية مثيرة للفتن أو التشكيك بالثوابت ..
وللإجابة نقول أن لهذا السبب وحده كان شرط الهمة العالية ضروريا فى توافره ..
فبداية يجب أن يبتعد المثقف المبتدئ عن نوعيات كتب المناظرات أو كتب المذهبيات وما شاكلها فإن حدث وصادف قضية من هذا النوع فى كتاب أو برنامج تليفزيونى يكون الحل أن يأخذ القضية برمتها لتكون محل بحث ودراسة وفهم فلا يترك سبيلا لمعرفة خباياها إلا ويسلكه عن طريق قراءة وجهات النظر المختلفة فى تلك القضية وعن طريق طلب معاونة أهل الإختصاص فى هذا المجال حتى يصل لوجهة النظر التى يرتاح لها عقله مع الوضع فى الإعتبار أن وجهة النظر المختارة من الباحث لا يتم تركها لهواه أو حسب ما يراه بل يجب أن يكون حكمه واختياره مبنيا على مرجعية واحدة فقط وهى مرجعية الفكر الإسلامى فإن كانت وجهة النظر تعارض أمرا تشريعيا مجمعا عليه أو اتفق المفكرون فيه فلا مجال للبحث عن وجهة نظر أخرى وإن كانت القضية لا علاقة لها بالجانب الفكرى الإسلامى يكون الإختيار هنا حرا حسب قناعات الباحث
ومسألة البحث حلف القضايا ليست مسألة متروكة للصدف بمعنى ألا يتحرك القارئ للبحث خلف قضية معينة إلا إذا صادفها بل يجب على القارئ بعد أن يتعدى مرحلة التدريب أن يتخذ من كل كتاب يقرؤه قضية معينة يحاول أن يكون فيها رأيا بغض النظر عن رأى الكاتب نفسه ..
فسواء اتفق مع الكاتب أو خالفه يجب عليه البحث خلف مصادر القضية الأصلية وقراءة وجهات النظر المعارضة للكاتب وسماع حجتهم لأنه إن اقتنع القارئ بوجهة نظر كتاب واحد دون أن يطالع الرد عليها سيكون تابعا لا قارئا .. وسيكون حافظا لا مثقفا .. فالاتفاق أو الإختلاف يكون بعد مطالعة سائر الآراء
ومع الأسف الشديد تغيب هذه المزية أو الخاصية عن عدد كبير من المثقفين الذين اعتدوا على ترك الهوى يحكم ويتحكم فى وجهات نظرهم
وهذا يعارض أول مبادئ الثقافة وهى الإستقلال والحيادية فكل قارئ له كاتب مفضل .. نعم هذا أمر طبيعى لكن ليس من الضرورى أن يكون رأيك على الدوام هو رأى هذا الكاتب بعينه لأن كلامه ليس منزلا ولا مانع أيضا من الإقتناع بوجهات نظر أخرى فى قضايا معينة تكون متبناه من كتاب لا نميل إليهم أو نؤيدهم
فالحق هو الحق بذاته ولا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق ..
وهذه الآفة هى التى وقفت وراء ترك العديدين لكتابات عملاقة لمؤلفين ومفكرين كبارا لمجرد أنهم شيوعيون أو علمانيون أو أنصار لنظم معينة أو نحو ذلك ..
فهؤلاء مثلا ينبغى تحاشي وجهات نظرهم إذا تحدثوا عن الدين أو الشريعة لكن ما الذى يمنع من أخذ وجهات نظرهم لو كانت حقيقية فى مجالات سياسية أو قضايا اجتماعية أو غيرها
ونأتى لمعيار الهمة وضرورة توافره فى المثقف ..
فهذا المعيار ضرورى لأن البحث ليس أمرا سهلا والسعى خلف معلومة أو كتاب ليس سهلا أيضا فقلما يجد الباحث أو المثقف غايته بسهولة لا سيما وأن طلب الثقافة كطلب العلم طريقه مملوء بأشواك الدنيا ولهذا جُعلت له رياحين الآخرة
وكما حدثنا التاريخ عن الأهوال التى كان يقابلها طلبة العلم فى رحلات البحث وكيف أنهم تعرضوا فى سبيل معلومة واحدة للهلاك أكثر من مرة .. حدثتنا التجارب الشخصية لعمالقة مثقفينا أيضا عن مواقف نادرة صادفوها وهم بصدد البحث خلف الحقيقة فى قضايا مجتمعهم وعقيدتهم وأوطانهم
فأحد المثقفين بحث عن كتاب نفذا نسخه من أربعين عاما كاملة ولم تتجدد طبعته وأضناه البحث ولم يجده فلجأ لبعض المثقفين الذين قرءوا الكتاب ليعتصر أذهانهم فيحدثوه عن فحواه ..
وآخر أرهقه البحث لسنوات عن كتاب نادر ووجده مصادفة فى منزل والد زوجته فهب واختطفه طالبا فى لهفة من حميه أن يهبه هذا الكتاب .. ولما كان الكتاب قد أتى مصادفة للرجل ولم يكن ذو تعلق بالقراءة فقد منحه إياه ببساطة وهو يستغرب لهفته فقال له المثقف
{ والله ما موافقتك سابقا على تزويجى ابنتك بأقل عندى من موافقتك على منحى هذا الكتاب }
فالحقيقة التى يتم بناء وجهة النظر السليمة عليها أشبه بالإبرة فى تل من القش لأنها صدق مدفون فى جبل كذب وتزييف
وعليه يجب أن يكون المثقف أثناء قراءته أشبه بالمحقق ملئ بالشك تجاه ما يقرأ حتى يتثبت من مصادره وإن تثبت من صدق المصادر أو كانت المعلومة مأخوذة من عالم ثقة يقوم بالبحث عن وجهات النظر المخالفة ليزداد يقينه
ولو فعل كل كاتب ما تحدثنا عنه لما وجدنا كاتبا واحدا يستطيع أن يناظره أحد فى وجهة نظر تبناها
لأن الكاتب الحقيقي الذى بحث ودقق فى كل جوانب القضية قبل أن يكتب عنها تحصن بمعلوماته ضد سائر وجهات النظر المضادة ولهذا تصبح كتاباته أشبه بالطلسم الغير قابل للهدم أو الفتح لسابق استعداده .. بشرط أن يدع الهوى فى الرأى جانبا
وإذا بحثنا فى المناظرات والمعارك الأدبية والثقافية التى خاضها عمالقة مثقفينا سنرى العديد من الأمثلة المشرفة على ذلك وهم الكتاب الذين صنعوا سمعتهم من قوة حجتهم .. ولم تكن سمعتهم من فعل الأساطير بل بالجهد والإخلاص
فليس الكاتب من وضع قلما على ورقة .. بل الكاتب الحقيقي هو الذى يمسك بالقلم وتصل يده شريانا بعقله فلا يضع حرفا قبل أن يتثبت منه
بعد هذا إن أخطأ فلا بأس لأنه لا يوجد كاتب أو إنسان كامل وكثيرا ما يصادف الكاتب أو المثقف كاتبا آخر أكثر ثقافة ودراية ينبهه لما غاب عنه أثناء بحثه النهم .. عندئذ يجب أن يتراجع الكاتب الأول أمام الحجة لأن العقل الناضج هو الذى تربي على اتباع الحق بعض النظر عن الطريق الذى أتى منه
ثالثا .. الثقافة السليمة
تأتى الخصلة الثالثة وهى الثقافة السليمة ونعنى بها حسن التبصر بكل كتاب وبكل كاتب .. فإن طالعت كتابا ترى فيه وجهة نظر معادية للإسلام مثلا فلا تتسرع باتهام الكاتب بالكفر والزندقة كما نرى اليوم ..
بل على القارئ أن يعرف تاريخ هذا الكاتب فإن كان من مذهبية معارضة للإسلام أصلا فهنا من المؤكد أن كتابه يحمل وجهة نظر مكذوبة أو ملوثة .. أما إن كان ماضي الكاتب لا يحمل شيئا من ذلك فهنا يجب تقديم العذر لتباين الأفهام طالما أن الكاتب لم يمس معلوما من الدين بالضرورة أن يخالف أمرا أجمعت الأمة عليه
وتكون الخطوة التالية السؤال خلف القضية فربما كان الكاتب على حق لا سيما إن كان مفكرا معروفا وإن كان على خطأ فالخطأ مردود من أهل العلم والتراجع له فرصته أمام النقد البناء الخالى من التجريح
مثلا عندما ألف خالد محمد خالد كتابه { من هنا نبدأ } وطرح فيه بعض الأفكار التى لا تناسب صحيح الفكر الإسلامى جاء الرد من الإمام محمد الغزالى ردا منطقيا واعيا لأنه استشعر فى الكاتب بحثا عن الحقيقة لا غرضا مسبقا فى هدمها وكانت النتيجة أن تراجع خالد محمد خالد عن تلك الأفكار
وكمثال على الجانب الآخر فعندما ألف فرج فوده كتابه الشهير {الحقيقة الغائبة } وامتلأ الكتاب تجريحا فى التاريخ الإسلامى كان الرد عنيفا وصارما من فقهاء وعلماء المسلمين لأن الكاتب له ماض وتاريخ معروف فى العلمانية
واتخاذ المواقف من العلماء يختلف عن اتخاذ المواقف من عامة الكتاب والصحفيين ..
فالعالم الذى يخرج بفتوى أو بوجهة نظر مخالفة لقواعد الشرع أو مخالفة لثوابت المجتمع المتعارف عليها لا ينبغى أن يكون رد فعل المثقفين والقراء هو التهجم واللعن والسخرية .. لأنهم لا يملكون من الأصل أساسا ثقافيا يضاهى العالم فيما تحدث عنه إنما يكون الرد والمطالبة به حكرا على العلماء من قامة العالم المخالف
أما الكتاب العاديين وصغار المفكرين فهؤلاء وجهات نظرهم ليس لها التقدير الذى يجب أن نتعامل به مع العلماء وكبار المفكرين
لأن هذه النوعية من الكتاب التى درجت على مهاجمة العقيدة ومهاجمة قواعد الفطرة الإسلامية وضرب الإنتماء الوطنى لا تكون فى الغالب تدين بوجهة نظر سليمة مبنية على حقائق بل تكون فى أغلبها وجهات نظر شخصية يلقونها حبرا على الصفحات دونما أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث الأمين خلفها
وهناك مع الأسف الشديد من يندفع الإقتناع خلف وجهات نظر مغرضة فى الأصل تكون مليئة بالمعلومات المغلوطة والتى تخدع القارئ ما لم يبحث ..
على سبيل المثال ..
تناولت العديد من الأقلام قديما وحديثا شخصية جمال الدين الأفغانى واتهموه بالعديد من الإتهامات لا يمكن الحكم عليها فى مجملها إن كانت صحيحة أم لا ..
إلا أنه مما يدفع المرء للشك فيها أن بعض هذه الإتهامات تمت صياغتها بمكرٍ مقصود للنيل من الرجل ومن أمثلتها أنه كان لا يري مانعا من السفور للمرأة ما لم يجلب فتنة
وبالطبع إن وقعت عين قارئ اليوم على تلك المعلومة المصحوبة بالدليل القاطع سيقتنع تماما أن الأفغانى نادى بسفور المرأة أى خلع الحجاب ما لم يسبب فتنة بالرغم من تضارب المعنى إذ أن كل سفور بخلع الحجاب يسبب فتنة قطعا
إلا أن أى قارئ متبصر يجب أن يلفت نظره نقطة بديهية ..
وهى أن الأفغانى كانت له شعبية رهيبة لتاريخه النضالى ضد المستعمر وكان من أئمة الفقهاء فكيف يمكن أن تسكت الجماهير والعلماء فى زمانه على نداء يهدم ثابتا من ثوابت الشريعة بل كيف يمكن أن يغامر الأفغانى نفسه ــ حتى لوكان مخادعا ــ بمثل تلك الدعوة التى تمنح خصومه المتربصين لفرصة .. حق رميه بالحجارة فى ميدان عام دون أن تتحرك الجماهير لمناصرته ؟!!
وبالفعل كان الشك فى محله
واتضح أن الأفغانى وهو معاصر للخديو إسماعيل فى مصر أى فى نهايات القرن التاسع عشر كان يبيح السفور وهو كشف الوجه لا خلع الحجاب فالسفور فى زمانه كان بهذا المعنى أما فى زماننا فلم يعد هناك أسلوب اليشمك التركى الذى كان يحجب المرأة تماما عند الخروج .. هذا إن خرجت من الأصل لأن المجتمع ساعتها كان يحرم على النساء مجرد زيارة الأهل والقراء